انسحاب
بعد تجهيزاتٍ دامت مدة ساعة تقريبا، تركتُ خلفي كلاما نائما على أوتار حنجرتي، وساعةً بلا عقارب وكذبةً بحروف مزيَّنة، خرجتُ بروح منكمشة، ونفس ضيّقة، وتركتُ باب بيتنا الواسع مواربا،
اعتذرتُ بـصمتٍ لقلب أمي عن انشغاله بي مسبقا، ثم مددت يدي إلى السماء طالبة من الإله رحمة وعونا، وزّعت نظري على الجهات جميعها فوجدتُ الأبواب مغلقة والنوافذ مسدولة الستائر إلا من واحدة يقف عليها طفل صغير يقوم بـحركاتٍ طفولية جذابة، جعلتُ سبّابتي تتوسط شفتي منعا لحديثه ثم هربتُ من نظراته التي تتبعني بـغرابة، لم يزل الإسفلت باردا بشكل يدعو إلى بذل المزيد من الخطوات في سبيل الاستمتاع بالهواء العليل وأكوام من الراحة التي أحتاجها، نثرتُ أمامي عشرين خطوة لحين وصولي إلى مفترق لـلطرق.. لا أدري أية طريق أسلك ولا إلى أين ذاهبة؟
جعلتُ من محفظتي خيمة لأدفع بها بعضا من حرارة الشمس اللاهبة، ولامستُ قطفةَ عشب نديّة هاربة من بين الحجارة القاسية، للحظةٍ خلتُني مثلها، تلهج داخلي الأمنيات وتستفيق الذكريات فتكسبني طراوة إلى الحدّ الذي جعل أجفاني رطبة وجعلني أتفقّد عشّ نملٍ منكوب فأحصي عدد ضحاياه لأقيم عليها مأتما، وأطبطب على صوصٍ صغير سقطت منه ريشة ناعمة، ارتطم بداخلي رجلٌ يقودُ الشّعور بسرعة جنونية فخرجت نبضاتي عن سكّة الهدوء التي أسّستُها،
نعتُّ قلبي بـالغباء لـلمرّة المئة وتساءلت:
من أين أتى ذاك الغريب بـمفتاحه وأنا التي أحكمتُ إغلاقه جيدا ورميتُ بجميع مغرياته في قعر الذاكرة؟
ثم فسَّرت نصره في كسر أقفال القلاع بأن بعض المشاعر السائبة تُحدثُ في أفئدة أصحابها تمرّدا وعصيانا،
انتصب أمامي فجأة طفل وشيخ، فطلبتُ بعينين صامتتين طفولة الأوّل وحكمة الثاني،
ثم مرّت من أمامي قطة، تودَّدتُ لها ببعض الطعام وطلبتُ منها أن تمنحني روحا من أرواحها السّبعة!
لكنْ ما هو محزن جدا أنها لم تلتفت لأمري مطلقا،
أيعقل أنني أصبحت شفّافة؟
أم أنّ صوتي تبخّر بين ذرات الهواء قبل وصوله إلى آذان الآخرين ونظراتي غير صادقة؟
مرّت هنيهة كدتُ فيها أصدّق ما رمى به عقلي
لولا أنّ سيّارة توقّفت أمامي يطلبُ صاحبها راكبا
ركضتُ بسرعة كبيرة أرشق الحيرة ببعض الشتائم
وأفتح الباب كـمن يتوق للانسحاب من معركة يعلمها خاسرة، سألني السائق:
إلى أين أنت ذاهبة؟
فأجتبه:
إلى أي مكان
فأومأَ برأسه قبولا، ها هو ذا سمع حديثي ثم ابتسم ابتسامة ساخرة. من نافذة السيارة كانت الأشجار تتسابق والأبنية تدور حول محاورها فدخلتُ في غيبوبة حنين غارقة، ثم صحوتُ على أصابعه تنقرُ كتفي وصوته يكرر على مسامعي:
هل تريدين النّزول هنا؟
أعدتُ الجواب ذاته وثقبُ قلبي يتّسع أكثر:
لا يا عمّ في المحطّة التي بعدها.
فاطمة_جعفر
الكلمات المفتاحية :
شعراء مطلع الألفية